الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
وقد قيل في الجواب عن الإشكال نحو هذا وهو أن تنزل الشياطين وإلقاءهم ما يسمعونه من السماء إلى أوليائهم حسا تفيده الآية المذكورة في أحد محاملها إنما كان قبل البعثة حيث لم يكن حينئذ منع أو كان لكنه لم يكن شديدًا. والمنع من السمع الذي يفيده قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] إنما كان بعد البعثة وكان على أتم وجه، وهذا مشكل عندي بابن الصياد وما كان منه فإنهم عدوه من الكهان، وقد صح إنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام حين سأله عن أمره: يأتيني صادق وكاذب وأن النبي صلى الله عليه وسلم امتحنه فاضمر له آية الدخان وهي قوله تعالى: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان: 10] وقال صلى الله عليه وسلم: خبأت لك خبأ فقال ابن الصياد: هو الدخ أي الدخان وهي لغة فيه كما ذهب إليه الجمهور فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أخسأ فلن تعدو قدرك».وقد قال القاضي كما نقل النووي عنه أيضًا: أصح إلا قول أنه لم يهتد من الآية التي أضمرها النبي عليه الصلاة والسلام إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «أخسأ فلن تعدو قدرك» أي القدر الذي يدركه الكهان من الاهتداء إلى بعض الشيء وما لا يبين منه حقيقته ولا يصل به إلى بيان وتحقيق أمور الغيب، وقد يقال في دفع هذا الإشكال: إن ابن الصياد كان من الضرب الثاني من الكهان وهم الذين تخبرهم الشياطين بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنهم مما قرب أو بعد، والصحيح جواز وجودهم بعد البعثة خلافًا للمعتزلة وبعض المتكلمين حيث قالوا باستحالة وجود هذا الضرب، وكذا الضرب السابق آنفًا، وأنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أسر إلى بعض أصحابه الذين كانوا معه ما أضمره أو كانت سورة الدخان مكتوبة في يده صلى الله عليه وسلم أو كتب الآية وحدها في يده عليه الصلاة والسلام، وكلا القولين الأخيرين حكاهما الداودين بعض العلماء كما في «شرح صحيح مسلم».وأيًا ما كان يكون ابن الصياد قد أخبر بأمر طارئ تطلع عليه الشياطين بدون اشتراق السمع من السماء وليس ذلك من الاطلاع على ما في القلب في شيء، ومع ذلك لم يخبر به تامًا بل أخبر به على نحو إخبار الكهان السابقين على زمن البعثة الذين هم من الضرب الأول في النقص.ولعل مراد القاضي بقوله: إنه لم يهتد من الآية التي أضمرها صلى الله عليه وسلم إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف إلخ تشبيه حاله مع أنه من الضرب الثاني بحال من تقدمه من الكهان الذين هم من الضرب الأول وإلا لاشكل كلامه هذا مع ما نقلناه عنه أولًا كما لا يخفى، وكأنه يقول برجم المسترقين للسمع قبل البعثة أيضًا إلا أنه لم يكن ثابة ما كان بعد البعثة، وقد ذهب إلى هذا جمع من المحدثين.ومن الناس من قال: إن الشيطان إذا خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب ألقى ما يخطفه إلى من تحته قبل أن يدركه السهاب ثم أن من تحته يوصل ذلك إلى الكاهن ولا يكاد يصح ذلك، وقيل: إن ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة بعد البعثة هو ما يسمعونه من الملاائكة عليهم السلام في العنان وهو المراد بقوله تعالى: {يُلْقُونَ السمع} [الشعراء: 223] وما هم ممنوعون عنه هو السمع من الملائكة عليهم السلام في السماء وهو المراد بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] واستدل لذلك بما أخرجه البخاري. وابن المنذر عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر في الأرض فيسمع الشيطان الكلمة فيقرها في أذن الكاهن كما يقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة» ولا يخفى أنه ليس في الخبر تعرض للسمع من الملائكة عليهم السلام في السماء بالمعنى المعروف لا نفيًا ولا إثباتًا، وقد يختارالقول بأن الشياطين إنما منعوا بعد البعثة عن سمع ما يعتد به من علم الغيب من ملائكة السماء أو العنان ومن خطف خطفة يعتد بها من ذلك اتبعه الشهاب وأهلكه ولم يدعه يوصلها بوجه من الوجوه إلى الكهنة، وأما سمع ما لا يعتقد به فقد يقع لهم ويوصلونه إلى الكهنة فيخلطون به من الذكب ما يخلطون، فيحث حكم عليهم بالعزل عن السمع أريد بالسمع السمع الكامل المعتد به وحيث حكم عليهم بإلقاء السمع أريد بالسمع السمع في الجملة وأدنى ما يصدق عليه أنه سمع، والظاهر أن ما حصل لابن الصياد كان من هذا السمع ولا يكاد يعدل عن ذلك، ويقال: إنه كان من الضرب الثاني للكهانة إلا إن ثبت أحد الشقوق الثلاثة وفي ثبوت ذلك كلام، نعم قوله صلى الله عليه وسلم «خبأت» ظاهر في أن هناك ما يخبأ في كف أو كم أو نحوهما والآية ما لم تكتب لا تكون كذلك، ولهذا احتاج القائلون بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أضمر له الآية في قلبه إلى تأويل خبأت بأضمرت.ويمكن أن يقال على بعد: إن الشياطين قد منعوا بعد البعثة عن السمع مطلقًا بالشهب المحرقة لهم، وارجاع ضمير {يُلْقُون} إلى الشياطين ضعيف لأن المقام في بيان من يتنزلون عليه لا بيان حالهم أو إلقاء سمعهم عنى إصغائهم إلى الملأ الأعلى و{أَكْثَرُهُمْ} عنى كلهم والتعبير به للإشارة إلى أن الأكثرية المذكورة كافية في المقصود. والمراد يصغون ليسمعوا فلا يسمعون إلا أنه أقيم وأكثرهم كاذبون مقام لا يسمعون أو إلقاء السمع عنى إلقاء ما يسمعه الناس من الأفاكين إليهم ولا يلزم من ذلك أن يكونوا سمعوه من المائكة عليهم السلام إذ يجوز أن يكونوا اخترعوه من عند أنفسهم ظنًا وتخمينًا وألقوه إلى أوليائهم ولا يبعد صدقهم في بعضه. والأمر في تسميته مسموعًا هين وما ورد في حديث الصحيحين وابن مردويه محمول على ما كان قبل البعثة، ويقال: إنهم كانوا يسمعون في الجملة وقد يحمل ما في الآية على ذلك وإليه ذهب بعضهم، وحمل خطف الكلمة فيه على حدسها بواسطة بعض الأوضاع الفلكية ونحو ذلك ليجوز اعتبار كونه بعد البعثة مما لا أظن أحدًا يرتضيه، وليس في قصة ابن الصياد ما هو نص في أن ما قاله كان عن سمع من الملائكة عليهم السلام ألقاه الشيطان إِليه. وكأني بك تستبعد تحدث الملائكة عليهم السلام في السماء بما أضمره صلى الله عليه وسلم وصعود الشياطين حين السؤال من غير ريث واستراقهم ونزولهم في أسرع وقت بما أجاب به ابن الصياد وما هو الأضرب من ضروب الكهانة.وتحقيق أمرها على ما ذكره الفاضل عبد الرحمن بن خلدون أن للنفس الإنسانية استعدادًا للإنسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها ويحصل من ذلك لمحة للبشر من صنف الاتقياء بما فطروا عليه من ذلك ولا يحتاجون فيه إلى اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلامًا أو حركة ولا بأمر من الأمور ويعطي التقسيم العقلي إن هاهنا صنفًا آخر من البشر ناقصًا عن رتبة هذا الصنف نقصان الضد عن ضده الكامل وهو صنف من البشر مفظور على أن تتحرك قوته العقلية حركته الفكرية بالإرادة عندما يتبعها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه فيتشبث لأعمال الحليلة بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوان وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان ويديم ذلك الإحساس والتخيل مستعينًا به في ذلك الإنسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي هي مبدأ في هذا الصنف لذلك الإدراك هي الكهانة ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها الجزئيات أكثر من إدراكها الكليات وتكون مستغلة بها غافلة عن الكليات ولذلك كثيرًا ما تكون المتخيلة فيهم في غاية القوة وتكون الجزئيات عندها حاضرة عتيدة وهي لها كالمرآة تنظر فيها دائمًا ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن نقصانه فطري ووحيه شيطاني، وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة لشتغل به عن الحواس ويقوى في الجملة على ذلك الإنسلاخ الناقص فيهجس في قلبه من تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذف على لسانه ورا صدق ووافق الحق ورا كذب لأنه يتمم أمر نقصه بأجنبي عن ذات المدارك ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعًا ويكون غير موثوق به ورا يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصًا على الظفر بالإدراك بزعمه وتمويهًا على السائلين، ولما كان انسلاخ النبي عليه الصلاة والسلام عن البشرية واتصاله بالملأ الأعلى من غير مسيع ولا استعانة بأجنبي كان صادقًا في جميع ما يأتي به وكان الصدق من خواص النبوة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لابن الصياد حين سأله كاشفًا عن حاله بقوله عليه الصلاة والسلام:«كيف يأتيك هذا الأمر؟ فقال: يأتيني صادق وكاذب: خلط عليك الأمر» يريد عليه الصلاة والسلام نفي النبوة عنه بالإشارة إلى أنها مما لا يعتبر فيه الكذب بحال، وإنما قيل: أرفع أحوال هذا الصنف السجع لأن معين السجع أخف من سائر المعينات من المرئيات والمسموعات وتدل خفة المعين على قرب ذلك الإنسلاخ والاتصال والبعد فيه عن العجز في الجملة، ولا انحصار لعلوم الكهان فيما يكون من الشياطين بل كما تكون من الشياطين تكون من أنفسهم بانسلاخها انسلاخًا غير تام واتصالها في الجملة بواسطة بعض الأسباب بعالم لا تحجب عنه الحوادث المستقبلة وغيرها فانقطاع خبر السماء بعد البعثة عن الشياطين بالرجم إن سلم لا يدل على انقطاع الكهانة.ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فانهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته ون لهم بعض الوجدان من أمر النبوة ولا يصدهم عن الإيمان ويدعوهم إلى العناد إلا وساوس المطامع بحصول النبوة لهم كما وقع لامية ابن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يكون نبيًا وكذا وقع لابن الصياد.ومسيلمة. وغيرهما، ورا تنقطع تلك الأماني فيؤمنون أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي. وقارب بن الأسود وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار ما يشهد بحسن الإيمان، وذكر في بيان استعداد بعض الأشخاص أعم من أن يكونوا كهانًا أو غيرهم للأخبار بالأمور الغيبية قبل ظهورها كلامًا طويلًا، حاصله أن النفس الإنسانية ذات روحانية ولها بذاتها الإدراك من غير واسطة لكنها محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وشواغلها لأن الحواس أبدًا جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه من الإدراك الجسماني ورا تنغمس عن الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة إما بالخاصة التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصة الموجودة في بعض الأشخاص كالكهنة أهل السجع وأهل الطرق بالحصى والنوى والناظرين في الأجسام الشفافة من المرايا والمياه وقلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وقد يلحق بهم المجانين أو بالرياضة الدينية مثل أهل الكشف من الصوفية أو السحرية مثل أهل الكشف من الجوكية فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود وتلك الذوات إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما قرر في محله فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علماف، ورا وقعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المتعادة ثم تراجع الحس بما أدركت إما مجردًا أو في قوالبه فتخبر به انتهى، ولا يخفى أن فيه ذهابًا إلى ما يقوله الفلاسفة في الملأ الأعلى وكثيرًا ما يسمونه عالم المجردات وقد يسمونه عالم العقول وهي محصورة في المشهور عنهم في عشرة ولا دليل لهم على هذا الحصر ولذا قال بعض متأخريهم بأنها لا تكاد تحصى، وللمتكلمين والمحققين من السلف في ذلك كلام لا يتسع هذا الموضع لذكره، وأنا أقول ولا ينكره إلا جهول: لله عز وجل خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص ولا يبعد بعد انقطاع خبر السماء عن السياطين بالرجم أن يجعل لبعض النفوس الإنسانية خاصية التكلم بما يصدق كلا أو بعضًا مع اطلاع وكشف يفيد العلم بما أخبر به أو بدون ذلك بأن ينطقه سبحانه بشيء فيتكلم به من غير علم بالمخبر به ويوافق الواقع.وقد اتفق لي ذلك وعمري نحو خمسن سنين وذلك أني رجعت من الكتاب إلى البيت وشرعت ألعب فيه على عادة الأطفال فنهتني والدتي رحمها الله تعالى عن ذلك وأمرتني بالنوم لاستيقظ صباحًا فاذهب إلى الكتاب فقلت لها: غدًا يقتل الوزير ولا أذهب إلى الكتاب وهو مما لا يكاد يمر بفكر فلم تلتفت إلى ذلك وأنا متني فلما أصبحت تأهبت للذهاب فجاء ابن أخت لها وأسر إليها كلامًا لم أسمعه فتغير حالها ومنعتي عن الذهاب ولا أدري لم ذلك فأردت الخروج إلى الدرب لألعب مع أمثالي فمنعتني أيضًا فقعدت وهي مضطربة البال تطلب أحدًا يخبرها عن حال والدي عليه الرحمة حيث ذهب قبيل طلوع الشمس إلى المدرسة فخرجت إلى الدرب على حين غفلت منها فوجدت الناس بين راكض ومسرع يتحدثون بأن الوزير قتله بعض خدمه وهو في صلاة الفجر فرجعت إليها مسرعًا مسرورًا بصدق كلامي وكنت قد أنسيته ولم يخطر ببالي حتى سمعت الناس يتحدثون بذلك.وفي «اليواقيت والجواهر» للشعراني عليه الرحمة في بحث الفرقة بين المعجزة والكهانة أن الكهانة كلمات تجري على لسان الكاهن را توافق ورا تخالف وفيه شمة مما ذكرنا هذا والله تعالى أعلم.والظاهر على ما قيل أن قوله تعالى: {هَلْ أُنَبّئُكُمْ} [الشعراء: 221] إلخ كلام مسوق منه تعالى لبيان تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون وحاشاه ممن تنزل عليه الشياطين وإبطال لقولهم في القرآن إنه من قبيل ما يلقى إلى الكهنة، وفي البحر ما هو ظاهر في أنه على معنى القول أي قل يا محمد هل أنبئكم إلخ وهو مسوق للتنزيه والإبطال المذكورين وقوله تعالى:
|